الأربعاء، 8 يوليو 2009

إيروتك مقدّس

نشيد الأنشاد الذي لسليمان".. هكذا يبدأ سفر نشيد الأنشاد، أحد أسفار العهد القديم في الكتاب المقدس الذي للمسيحيين. كتبه سليمان كما تقول الرواية التي يصدقها المسيحيون، والتي يشكك فيها أصحاب عقائد أخرى، باعتبار نشيد الأنشاد نصّ إيروتيكي فيه وصف متبادل بين عريس وعروسه لمحاسن كلّ منهما الحسية، وهو ما لا يمكن أن يكون قد كتبه نبيّ كسليمان، فيقول الشاعر إن العصمة لا تكون إلا لنبيّ.. ونصوص كتلك.. تعتبر خارجة عن نطاق العصمة، إلى نطاق آخر هو إثارة الشهوات.

ويقع نشيد الأنشاد في ثمانية أصحاحات (فصول)، تصور بشكل أقرب إلى المسرحية حوارا بين عروسين حول محاسن كلّ منهما، ويتدخل في هذا الحوار بين حين وآخر آخرون، هم أشقاء العريس، وجوقة، يشجعون العروسين على الفوز ببعضهما وممارسة الحب إلى المنتهى.

وفي نشيد الأنشاد جرأة متبادلة بين العروسين في وصف افتتان كل منهما بالآخر ورغبته في ممارسة كل الأشياء معه، بل ولعل العروس تبدو أكثر جرأة في مغازلة عريسها وذكر محاسنه التي تحبها. إذ تقول في أحد المواضع "حبيبي قِلادَةُ مُرٍّ لي، بَينَ ثَديَيَ مَوضِعُهُ. حبيبي عُنقودٌ مِنَ الكافورِ في كُرومِ عينِ جدْيٍ"، وتضيف في موضع آخر "ليأتِ حبيبي إلى جنَّتِهِ ويأكُلَ ثَمَرهُ الشَّهيَ".

وإلى جانب تعبير العريس وعروسه، على السواء، عن رغبات كل منهما إزاء الآخر، يصف كل منهما رفيقه وصفا دقيقا، ويذكر كل منهما ما يحب في الآخر، وكيف أنه يكاد يصل إلى الكمال في فتنته، إذ يصف العريس عروسه ويقول "شَفَتاكِ سِلْكٌ مِنَ القِرمِزِ، وكَلامُ فَمِكِ جميلٌ. خدَّاكِ فَلْقَتا رُمَّانةٍ مِنْ وراءِ حِجابِكِ. عُنُقُكِ كبُرْج داوُدَ مَبنِيًّ للسِّلاحِ. ألفُ تُرْسٍ مُعَلَّقٌ فيهِ، وكُلُّ دُروعِ الجبابِرةِ. ثدياكِ تَوأما ظبْيةٍ صغيرانِ يَرعيانِ بَينَ السَّوسَنِ". فيما تردّ العروس عليه بقولها عنه إن "رِيقُهُ أعذَبُ ما يكونُ، وهوَ شَهيًّ كُلُّهُ". بل ويصل الحد بها إلى وصف المشهد التالي في تفاصيل العلاقة الحميمة، عندما تقول " مِنَ الكُوَّةِ يَمُدُّ حبيبي يَدَهُ، فتتَحَرَّكُ لَه أحشائي".

هكذا إذن.. نصّ أقرب إلى كونه نصّ إيروتيكي في كتاب هو مقدس.. نصّ قد لا يضاهيه أي نص إيروتيكي آخر في لغته وأسلوبه وجرأته، ولكن في النهاية تبقى المتناقضة أبدا.. فهذا النشيد، الأكثر جرأة والأمتع حسيّا، مضمّنٌ في كتاب هو مقدس بطبيعته، محرّم فيه الزنا وفيه نحوٌ إلى الروحانيات والتقرّب من الله وبعدٌ عن الجسد ومتعه ورغباته.

ولهذا، تدور سجالات حادة حول هذا السفر.. يشكك البعض في أن النبيّ سليمان كتبه، فالدليل على أن سليمان هو كاتب هذا السفر أول آية فيه والتي تقول "نشيد الأنشاد الذي لسليمان"، وتتعدد التفسيرات، فيقول البعض إن لفظ "الذي لسليمان" يعني أن سليمانا هو من كتبه، ويقول آخرون إنه هذا اللفظ قد يفيد أيضا أنه كُتِب لسليمان.. أو عنه، وليس سليمانا من كتبه. وثمة نظرية أخرى تؤكد أن هذا النص هو مجموعة من الأشعار كتبت في عصور وأزمان متباينة، مجهولة الكاتب، جمعت لاحقا في أواخر عصر المملكة، أي قبل السبي البابلي.

"الآباء اليسوعيين"، وهي حركة كاثوليكية نشأت منذ نحو خمسمائة عام، وضعت تفسيرا وترجمة للكتاب المقدس، تؤكد، بخصوص نشيد الأنشاد، أنه لا يوجد في آياته ما يدل على كاتبه أو ما يشير إلى زمن كتابته، وباستخدام مفتاح اللغة والأسلوب يؤكدون أنه كتب بعد وفاة سليمان بقرون عديدة، ويرجحون أنه مجموعة من قصائد الأعراس، التي تهتم بالحب أكثر من اهتمامها بالزواج، كتبت في القرن الخامس قبل الميلاد (عاش سليمان في القرن العاشر قبل ميلاد المسيح).

سؤال يطرح نفسه دائما.. كيف يكتب نبيّ هذه النصوص الأقرب إلى فنّ الإيروتك؟ ولو صحّت الروايات التي تشكك في كون سليمان هو كاتبه، كيف يضمّن هذا النص الإيروتيكي في كتاب مقدس موحى به من الله؟ سجالات كثيرة حول هذا الأمر، يقول الكتاب المقدس عندما يحكي قصة بداية الخلق إن الله قال بعد أن خلق حواء لآدم "ليس جيدا أن يكون آدم وحده"، كما يقول سليمان في سفر الأمثال "افرح بامرأة شبابك.. ليروك ثدياها في كل وقت، وبمحبتها اسكر دائما". تكرّم المسيحية الزواج فيأتي في سفر العبرانيين هذا النص "ليكن الزواج مكرما عند كل واحد، والمضجع غير نجس. وأما العاهرون والزناة فسيدينهم الله". وفي الإطار ذاته يأتي نشيد الأنشاد ليصف مباهج الحياة الزوجية، كما يقول مدافعون، لأن الجنس الذي هو داخل إطار الزواج لا خطأ فيه.

لنشيد الأنشاد إذن تفسير حرفي بأنه يصف حلاوة الحياة الزوجية ومتعة الجنس فيها، وهناك تفسير آخر، رمزي الدلالات، يسقط كل هذه النصوص على محبة الله لكل الشعوب، ويشببها بمحبة الزوج لزوجته، فيكون حب الزوجين وارتباطهما الأبدي، كحب الله لخلقه وارتباطهما أبدا.

اللافت، أخيرا، في نشيد الأنشاد.. عدا كونه نصّا يحمل ما يحمله من دلالات جنسية وأوصاف إيروتيكية، ذلك الجو المسرحي والصورة الدرامية، والحوار المتبادل بين عريس وعروس وأشخاص آخرين من جوقة وأشقاء للعريس. وبغض النظر عن الخلاف المحتدم حول شخصية كاتب هذا السفر من أسفار الكتاب المقدس، أو الوقت الذي كتب فيه، فإن أيا من التواريخ المطروحة كاحتمالات ممكنة لكتابة نشيد الأنشاد.. تأتي قبل ألفي عام تقريبا من بدء استخدام هذا الأسلوب السردي واستحضار ذلك الجو المسرحي، فيبدو النص غريبا على عصره.. متطورا وأكثر إبداعا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق